فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [90].
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي: دعاءَهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} تعليل لما فصل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي: كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثارُ في على إلى للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن إلى تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} أي: ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: مخبتين متضرعين. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [91].
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي: اذكر نبأ التي أحصنته إحصاناً كلياً، عن الحلال والحرام جميعاً. كما قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عِمْرَان: 47] و[مريم: 20]. والتعبير عنها بالموصول، لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها، بادئ بدء: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي: نفخنا الروح في عيسى فيها. أي: أحييناه في جوفها. فنزّل نفخ الروح في عيسى، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل المعنى: فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام، أي: أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا، أي: بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا} أي: نبأهما: {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه. وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: {ءَايَتَيْنِ} كما قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12]؟
قلت: لأن حالهما بمجموعها آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل: المعنى وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً وَابْنَهَا آيَةً. فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة، بقوله سبحانه وتعالى:

.تفسير الآية رقم (92):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [92].
{إِنَّ هَذِهِ} أي: علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له: {أُمَّتُكُمْ} أي: ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها. والخطاب للناس كافة: {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: غير مختلفة. بل هي ملة واحدة. أي: أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد. كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} [آل عِمْرَان: 19]، {وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي: لا إله لكم غيري: {فَاعْبُدُونِ} أي: ولا تشركوا بي شيئاً.
تنبيه:
قلنا: إن الأمة هنا بمعنى الملة، وهو الدين المجتمع عليه، كما في قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23]، أي: على دين يجتمع عليه. والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية، وفي آية: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51- 52]، وتطلق الأمة بمعنى الجماعة. كما هي في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: جماعة [الأعراف: 181]. وكما في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عِمْرَان: 104]، ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقاً، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع، يعتبرون بها واحداً، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة. وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]، وفي قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، وبمعنى الإمام الذي يقتدى به،كما في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120]، وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمْرَان: 110]، وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة، على ما ذكرنا. وإنما خصصه العرف تخصيصاً. كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213].

.تفسير الآية رقم (93):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [93].
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي: تفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به، ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزاباً ومللاً.
قال الزمخشري رحمه الله: والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات. كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه، إلى آخرين، ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلاً لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة، إليه يرجعون. فهو محاسبهم ومجازيهم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

.تفسير الآية رقم (94):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [94].
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي: فمن عمل من هؤلاء، الذين تفرقوا في دينهم، بما أمر الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بوحدانية الله، مصدق وعده ووعيده، متبرئ من الأنداد والآلهة، فلا كفران لسعيه، بل يشكر الله عمله هذا، ويثيبه ثواب أهل طاعته. وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ} أي: لسعيه المشكور: {كَاتِبُونَ} أي: مثبتوه في صحيفة أعماله، ولا نضيعه.
تنبيه:
الكفران مصدر من: كفر فلان النعمة كُفراً وكفراناً وأوثر لا كفران على لا نكفر للمبالغة. لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه. وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به. والآية كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء: 19].
ثم أشار إلى مقابل هؤلاء، وهم من أعرض عن ذكره تعالى، بلحوق الوعيد لهم، لما جرت به سنته تعالى، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (95):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [95].
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي: وحرام على أهل قرية فسقوا عن أمر ربهم، فأهلكهم بذنوبهم، أن يرجعوا إلى أهلهم، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يّس: 31]، وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يّس: 50]، وزيادة لا هنا لتأكيد معنى النفي من حرام وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوّعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى، وهي حياتهم الدنيا. وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها، ولا فيها على بابها. وهي مع حرام من قبيل نفي النفي. فيدل على الإثبات. والمعنى: وحرام على القرية المهلكة، عدم رجوعها إلى الآخرة. بل واجب رجوعها للجزاء. فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحدٍ. وأنه سبحانه سيحييه، وبعمله يجزيه. واللفظ الكريم يحتمله ويتضح فيه. إلا أن الأول لرعاية النظائر من الآي أولى. وأما ذكر سواهما، فلا يدل عليه السياق ولا النظير. وفيه ما يخل بالبلاغة من التعقيد وفوات سلاسة التعبير.
ثم أشار إلى تحقق نصر الرسل وغلبتهم، وكثرة أتباعهم حتى يحيطوا بأعدائهم من كل جانب، وينزلوا بهم ما تشخص لهم أبصارهم، يورثهم طول الندامة، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (96):

القول في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [96].
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} علم لكل أمة كثيرة العدد مختلطة مِنْ أَجْنَاسٍ شتى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} أي: من كل نشز من الأرض يسرعون، متجندين لقهر أعدائهم، تحت راية نبيهم أو أميره أو خليفته.

.تفسير الآية رقم (97):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [97].
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي: طلعت طلائع النصر والقهر، ودحر الباطل والكفر: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لهول ما حل بساحتهم والدهشة منه، قائلين: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي: لم نعلم أنه حق: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أي لأنفسنا، بالإخلال بالنظر والإباء والعناد. ثم أشار إلى شأنهم في الآخرة بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (98- 100):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [98- 100].
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من الأوثان والأصنام: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي: ما يرمى به إليها: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: فلا منجى لهم منها.
قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ قرنوا بآلهتهم؟
قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة. حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب. ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة، ويستنفعون بشفاعتهم. فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي: ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} أي: من الهول وشدة العذاب. ثم بيّن تعالى حال المؤمنين إثر حال الكافرين، حسبما جرت به سنة التنزيل، من شفع الوعد بالوعيد، وإيراد الترغيب مع الترهيب، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (101- 103):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [101- 103].
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي: الخصلة الحسنى، وهي السعادة أو التوفيق: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لأنهم في غرفات الجنان آمنون. إذ وقاهم ربهم عذاب السعير: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي: صوتاً يحس به منها، لبعدهم عنها وعما يفزعهم: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي: للحشر كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87]، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي: تستقبلهم مهنئين لهم قائلين: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي في الدنيا، وتبشرون بنيل المثوبة الحسنى فيه. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (104- 107):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [104- 107].
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} أي: اذكره. أو ظرف لـ: {لا يحزنهم} أو لـ: {تتلقاهم}. والطيّ ضد النشر. وقوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أي: كما يطوى السجل وهو الكتاب. واللام في للكتب لام التبيين. ولذلك قرئ: {الكتاب} بالإفراد. أو بمعنى من وفيه قرب من الأول. أو الكتب بمعنى المكتوب. أي: كطي الصحيفة على مكتوبها. فاللام بمعنى على وهو ما اختاره ابن جرير.
تنبيه:
ما نقل عن ابن عباس أن السجل اسم رجل كان يكتب للنبيّ صلوات الله عليه، كما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، فأثر منكر لا يصح.
قال ابن كثير: وقد صرح بوضعه جماعة من الحفاظ، وإن كان في سنن أبي داود. منهم شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِيّ.
وكذلك تقدم في رده الإمام ابن جرير وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل. وكُتَّابُ النبيّ صلوات الله عليه، معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل.
وصدق رحمه الله في ذلك. وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.
وأما من ذكره في أسماء الصحابة، فإنما اعتمد على هذا الحديث. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة. انتهى.
هذه الآية كآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وطي السماء كناية عن انكدار نجومها، ومحو رسومها، بفساد تركيبها واختلال نظامها. فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما نراه اليوم. فيخرب العالم بأسره: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: منجزين إياه. ثم أشار إلى تحقيق مصداقه، بإعزاز المنبئ عنه، وإيراثه ملك جاحده بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} أي: العاملون بطاعته. المنتهون إلى أمره ونهيه. دون العاملين منهم بمعصيته، المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته. والزبور علم على كتاب داود عليه السلام، ويقال: المراد به كل كتاب منزل. والذكر- قالوا- التوراة أو أم الكتاب. يعني اللوح الذي كتب فيه كل شيء قبل الخلق، والله أعلم. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. أو إلى العبرة في إيراث الأرض الصالحين ودحر المجرمين. والبلاغ الكفاية. وقوله: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي: يعبدون الله، بما شرعه وأحبه ورضيه. ويؤثرون طاعته على طاعة الشياطين وشهوات النفس: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: وما أرسلناك بهذه الحنيفية والدين الفطريّ، إلا حال كونك رحمة للخلق، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية. وجوز كون رحمة مفعولاً له. أي: للرحمة، فهو نبيّ الرحمة.
تنبيه:
قال الرازي: إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا. أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم. فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن يطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب. فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قريناً له. قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] إلى قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: 44]، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. انتهى.
وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه، في الشذرة التي جمعتها في سيرته الزكية، في بيان افتقار الناس جميعاً إلى رسالته، فقلت: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل، ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة. وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال، الأجيال الطوال، حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح. فأحدث بعد ذلك أمراً، وجعل بعد عسر يسراً. فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولّت. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان، ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنه الآصار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عِمْرَان: 164]. انتهى. وقوله تعالى: